- أحمد الشيخ: حدوتة الجدة غابت عن وجدان الطفل فاختفت مشاعر التخيل
- د. محمد يحيى: الحكاية تحقق التماسك الأسري والتواصل بين الأجيال
- د. كمال الدين حسين: على الأم أن تحكي للطفل قصص الأبطال المسلمين الأوائل
تحقيق- وفاء سعداوي
الحدوتة تسحر الطفل، خاصة في طفولته المبكرة.. وكم كنَّا نسمع حواديت الجدات والأمهات، بل والآباء وكم من حواديت سرت في نفوسنا فغيرت.. وصالت بخيالنا وجالت، أما طفل اليوم فينظر حوله فلا يجد جدته، فهي في بيتها، ومشغولة بعملها، وأمه كذلك فالعمل له مسئوليات وللبيت طلبات، والآباء يقال لهم ليل نهار هات.. هات.. وهكذا غابت الحواديت والحكايات وانطلق الأطفال إلى الكمبيوتر والدشات والتلفاز.
تقول مها سعيد- إخصائية اجتماعية-: لقد ورثنا ونحن أطفال أشياء مهمة جدًا من خلال الحكايات المروية من الجدة والأم، لكن طفل اليوم مسكين؛ فالأم مشغولة بالعمل والأب أيضًا، والجدة في منزلها لا تتاح لها فرصة مجالسة حفيدها كثيرًا، رغم أن الحدوتة وسيلة محببة ومسلية خاصة في مرحلة ما قبل المدرسة فخيال الطفل بلا حدود، تقرأ وتحكي وعندما يسمع الطفل يجسد فعملية الحكي توسيع لخيال الطفل، وعقل الطفل مسئولية الأم على وجه الخصوص فالأم هي المربية، فيجب أن تضع طفلها في عينيها فكلما أعطته أعطى في المستقبل، وكل قيمة نبيلة يمكن أن تعطيها له من خلال الحدوتة، إلى جانب تثبيت الموروث الذي لو تخلينا عنه سينتهي من حياة الأجيال الصاعدة التي ستستبدل به الأفكار الوافدة التي قد تكون من أعدائنا.
التوجيه التربوي
ويرى الكاتب- أحمد الشيخ- أن حدوتة الجدة والأم غابت عن وجدان الطفل فاختفت مشاعر التخيل والنوايا الحسنة والتعامل مع المجتمع بشكل أكثر تهذيبًا والتزامًا، ويطالب الذين يتصدون لمسألة الكتابة للطفل بأن يضعوا هذا في اعتبارهم، بمعنى أن يحاولوا قدر استطاعتهم إعادة بعث التراث وطرحه في كتاباتهم، بمعنى أيضًا أن يقوموا بالدور المفتقد في إحياء الموروث لتثبيته في عقول الأجيال الناشئة حتى لا يضيع.
ويقول إن الكاتب الحقيقي يستطيع تثبيت هذا التراث في عقول الأجيال الجديدة، وإحياءه ومحاولة بث القيم الأصيلة من خلال النص المكتوب وهو وسيلة الكاتب.
ويضيف أحمد الشيخ أن على الأم أن تفهم أولاً وظيفتها الأساسية في توجيه الطفل، فالمسألة ليست مجرد إطعامه وتنظيف ثيابه، وإنما شحذ خياله وتشجيعه على التخيل وذلك لا يتأتى إلا بوعي الأم نفسها بثقافتها، بفهمها لقدرات طفلها في السن الذي تتوجه فيه لتربيته، فلا شك أن طفلاً عمره ثلاث سنوات يحتاج شيئًا مختلفًا عن طفلٍ في العاشرة من عمره فلا تسمعه حدوتة ساذجة بالنسبة له ولا معقدة بالنسبة لقدراته.
والأم خير مقياس لقدرات الطفل، والجوهري في المسألة أن تسعى الأم لتثبيت القيم الفاضلة.. الصدق.. التواضع.. الشجاعة.. الإيمان بتراثنا وقيمنا الدينية، ورغم التقدم العلمي المذهل الذي يتبدى في الكتابات المترجمة لتربية أطفال آخرين في مجتمعات غير مجتمعاتنا، وبالتالي يصعب أن نأخذها على علاتها، وهذا ليس انغلاقًا على الذات بقدر ما هو تأصيل الحقيقي الخاص بنا قبل الالتفات إلى الآخر الذي يمكن النظر إليه دون انبهار أو اعتبار مستوى أعلى حضاريًّا.. فعندنا خبرات آلاف السنين، فهو أكثر مصداقية، ويتوافق مع تكوينها فتراثنا مليء وخيال الكاتب الشرقي قادر على العطاء لو أخذه بجدية واعتبره وظيفة لتنمية أجيال جديدة، ولكن للأسف سكتنا عن الحكي، ولم نوفر له الكتاب أو المجلة التي تؤدي وظيفة القصة المحكية، وتؤدي دورًا أخلاقيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا، دورًا أساسيًّا في تربية الطفل.
والمسألة تحتاج درجة من الوعي الكامل والتعاون الحقيقي بين البيت والمدرسة وكافة المؤسسات التربوية وأجهزة الإعلام لتكييف مزاج الأطفال وإبراز القيم الإسلامية.
تنمية القدرات
ويرى الدكتور محمد يحيى- أستاذ الأدب الإنجليزي بآداب القاهرة- أن وجود الحدوتة له دور مهم من ناحية توسيع الخيال واهتمامه بعوالم أخرى جديدة عليه وتلعب أيضًا دورًا مهمًا في نقل قيم أخلاقية مهمة بشكل لا شعوري، دينية وأخلاقية وقيم التراث القومي والوطني والإسلامي، وينمي لديه القدرة على التخيّل فعندما تحكي له لا يراها فيتخيل الأحداث، ونفتقد القيم الإسلامية والقدرة على إثارة الخيال، والشعور الذي تشجع عليها حكايات الجدة والأم، فجزء كبير من الحكايات التي بوسائل الإعلام أجنبية تمثل البيئة الأجنبية حتى لو تم تعريبها، ومن ناحية أخرى القصة المحكية تثير خياله وتوسع قدرته على التخيل أكثر من القصة من خلال فيلم حتى لو كان بالمؤثرات الصوتية والخدع السينمائية والتقدم التكنولوجي لا يعطيها نفس القوة في التخيل.
كذلك الحكاية تحقق التماسك الأسري والتواصل بين الأجيال، الذي افتقدناه فوسائل الإعلام قطعت عملية التواصل بين الأجيال والتماسك في الأسرة، والحواديت تخلو من العنف الذي نراه بكمية كبيرة إلى جانب الإباحية الأخلاقية من أزياء واختلاط لا توجد في الحدوتة.
حدوتة قبل النوم
ويؤكد الدكتور كمال الدين حسين- الأستاذ بكلية رياض الأطفال- أهمية الحكايات التي تقصها الأم لطفلها قبل النوم وتثبت فيه من خلال القدرة على التخيل والحنان وترسخ من خلالها الإيثار والاعتماد على النفس بعكس القصص الأجنبية التي تذاع في وسائل الإعلام، ويشعر الطفل معها بالغرابة، ولذلك فعلى الأم أن تبحث في تراثنا لتحكي للطفل قصص الأبطال المسلمين الأوائل مع شرح مبسط للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، أما القصص التي تحوي صورًا خرافيةً مثل أمنا الغولة فيمكن من خلال التعليم بالضد أن تفيد الطفل، فالبنت مثلاً تسمع أن الغولة دميمة الشكل وغير مهتمة بنظافتها أو هيئتها فتقوم بمراعاة نظافتها وتمشيط شعرها حتى لا ينفر منها الناس، كذلك فالبعبع هو نموذج الشر المجسم.. وهكذا فبضدها تتميز الأشياء.
استنطاق الحيوان
ويقول الدكتور مصطفى الحاروني- مدرس علم النفس التربوي بجامعة حلوان- إن الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة لا يختلفون فيحبون الحيوانات والخيال الخصب ويتخيلون أنها تحادثهم فنحن الكبار إذا قصت علينا قصة على لسان الطير نتقبلها فما بال خيال الطفل الذي لا يحده حدود ولا يؤثر فيه بالسلب وإنما على العكس قد تكون سبيلاً لإثراء خياله فالمؤثرات الحضارية تثري خياله وتساعد أكثر على تنميته وخصوبته، فاختلاف البيئة ليس له تأثير وإنما ثراء البيئة يؤدي إلى ثراء الطفل خياليًّا، فيستنطق الحيوان ويلعب معه ويحكي قصة من خلاله فالعلماء يقولون إن الطفل حين لا يقتني قصص الحيوانات والطيور من المكتبة فهذا دليل فطامه سيكولوجيًّا، أي أنه أصبح ناضجًا سلوكيًّا واتجه إلى الواقعية، فالخيال فطري في الطفل وحين يكبر وينضج ينتقل إلى الواقع ويتساءل عن الأشياء كيف ولماذا وأين .. ويخلق من الواقع أشياءَ إبداعيةً.
الجدة العاملة
ويعلل الشاعر وكاتب الأطفال نشأت المصري اختفاء حدوتة الجدة والأم، بأن الأم ليس عندها وقت، وليس لديها حصيلة حكائية، فهي لا تسمع ولا تقرأ، فالحياة شدتها ولا وقت للتأمل ولذلك الجدة مشغولة لأن جزءًا من حدوتة الجدة أنها كانت متفرغة بعد انتهاء مسئولياتها، فكانت تقوم بجزء إبداعي في الحكاية، فتقص وتضيف من خيالها، أما جدات هذا العصر فمشاغل الحياة والعمل استنزفت وقتهن وطاقاتهن وقدراتهن على الحكاية وليس لديهم الحصيلة؛ لأن تربيتهن سريعة جدًا، لا مجال فيها للتأمل واستفادة شيء فالحياة تطاردهن ويطاردنها، وليس هناك وقت لانتزاع شيء من ذهنهن لأن الجدة كانت تختلق حكاية إذا استنزفت حصيلتها كذلك بيت العائلة غير موجود فضعف العلاقات الأسرية وضيق الوقت وحركة الحياة أسرع والتحولات الاجتماعية أثرت على الفترة التي يقضيها مع جدته، ولو وجدت فهو في الحضانة صباحًا ومساءً النادي ووسائل الإعلام.
ويضيف: إن ثقافة الجدة غيرت مفردات الأولاد اليوم ففاقد الشيء لا يعطيه ففي العالم كله دور الجدة يتلاشى ويحل محلها جدة جديدة هي النت والتليفزيون، بل إن الجيل الحالي من الأمهات غير قارئ حتى تقرأ لأولادها، وليس لديهن الوعي والانتباه لمشاركة أولادها بالحكايات، فليس هناك حرص على ذلك بل يتخلصون من الأطفال في الحضانة والوسائل الأخرى فالأم نفسها ترفض هذا الدور والطفل كذلك يفضل بدائل أخرى ترقص وتغني فهي حدوتة مصورة بالألوان ومتحركة وناطقة وجميلة في التليفزيون والنت.
الحل
ويرى نشأت المصرى أن الحل هو تحسين الجدة والأم الجديدة إلى حين حدوث تغييرات جذرية في المجتمع تعيد الأب إلى البيت، والجدة كذلك تستطيع تجميع أطراف الأسرة، ونشجع الأم والجدة على تثقيف نفسها بالقصص والحواديت لأنهن ليس لديهن رصيد فليقرأن مع الأطفال القصص لأنهن ليس لديهن شيء في الذاكرة ولا قدرة على التخيل.
ويضيف: وحتى تحدث هذه التغيرات الاجتماعية، علينا مشاهدة ما يقدم للطفل، وملاحظة ما يسمع وتأكيد الطيب وهذا يحتاج أيضًا إلى وقت، ولو من بعيد حتى لا ينفر الطفل من النصيحة المباشرة، فعيب وسائل الإعلام أنها عشوائية فليس هناك خطط واعية لإعداد الطفل، فعلينا مشاركة الجدة والأم الطفل ما يشاهده، أما أن يقرأ الطفل الحدوتة في كتاب، فالطفل لا يرى نموذج الكبير لدى الكبير، أقصى ما يراه منهم أن يمسكوا بجريدة ويلقوها، والجريدة غير شيقة بالنسبة للطفل، ولو افترضنا أن الطفل نهم في القراءة فلن يجد الرصيد الذي يكفيه مثلما يجده على النت، والنت أرخص وموجود باستمرار وعنده فرصة للاختيار إلا إذا كانت عادة القراءة موجودة في البيت، من الممكن لطفل يتغير سلوكه بسماع الحدوتة أو يقرأها، والأمر يحتاج لمبادرة من الأم والأب لتغيير بعض العادات وتقنين استعمال النت فيكون هناك وقت لسماع الحدوتة وقراءتها.